الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا **
أما فضلاء الكُتَّاب فلم يزل الشعراء يَلْهَجون بمدح أشراف الكُتَّاب وتقريظهم ويتغالَوْن في وصف بلاغات هم وحُسْن خطوطهم فمن أحسن ما مَدح به كاتب قولُ ابن المعتز: إذا أخذ القِرْطاس خِلْتَ يمينَة تُفَتَح نَوْراً أو تُنَظِّم جَوْهرا وقول الآخر: يُؤلِّفُ اللّولُؤَ المَنْثُورَ مَنْطِقه ويَنْظِئم الذُرّ بالأقلام في الكاتب وقول الآخر: وكاتب يرقُم في طِرسِه روضا به ترتع الحفاظ وقول الآخر. إن هز أقلامَة يَوْماً ليعمِلها وإنساك كل كمى هز عامله وأن اقرَ على رَق أناملَة أقر بالرق كتاب النان له قول الاخر. لايخطر الفكر في كتابَتِه كان اقلامه لها خاطر القَول والفِعْل يجريَانِ مَعاً لا أول فيهما ولا آخر وقول آخر. وشادنٍ من بني الكُتَابِ مقتَدِر على البلاغة احلى الناس أنشاء ٍ فلا يُجاريهِ في ميْدانه أحَد يريك سبحانه فى الإنشاء إن شاء وكذلك أولِغوا بذَمِّ حَمقى الكُتَّاب ولَهِجُوا بهَجْوهم في كل زمن. فمن ذلك قول بعض المتقدمين يهجُو كاتباً: حِمار في الكِتابةِ يَدًعِيها كدَعْوى الِ حَرْبِ في زيَاد فدَعْ عنْكَ الكِتابَةَ لَسْت منها! ولو غَرِقتْ ثِيابُكَ في المِدَاد وقول الاخر. فاللَفْظ قالوا ومكاتب أقلامه معَؤَدات بالغَلطْ يَكشِط ما يكتبه ثم يعِيد ما كشَط وقول آبن أي العَيْناء يهجوأسد بن جَهْو الكاتب. أوما تَرى أسد بنَ جَهْوَر قد غَدَا مُتَشبها بأجلَةِ الكتَّاب لكِنْ يخَرِّقُ ألفَ طُومارٍ إذا ما آحتيجَ منه إلى جوابِ كِتاب وقد أكثر الناس من الحكايات المضحكة عن هذا النوع من الكُتَّاب مما صاروا به هزؤاً على ممرّ الزمان وتعاقب الأيام. كما حكي عن محمد بن يحيى الكاتب انه قرأ على بعض الخُلفاء كتاباً يذكر فيه " حاضر طيّ " فصحًفه حاضرطي فسخِر منه أهل المجلس. ويروى ان كتّاب الدواوين ألزموا بعض العمال مالاً مخرَّجا عليه فبعث بحسابه إلى عبيد اللّه بن سليمان فوقَّع عليه " هذا هذا " ورد الحساب إلى العامل فقدّر العاملُ بضعْف آدابه انه صحَّح حجته وقَبِل الحساب منه كما يقال في تثبًت الشيء " هو هو " وأخرج التوقيع إلى الكُتَاب وناظرهم على ان ذلك يجب إزألة المال الذى لزمه عنه فلم يفهم أحد منهم ما أراد عبيد الله بن سليمان فرد التوقيع الى عبيد الله فلم يزده في الجواب على أن شدّد الكلمة الأخيرة ووقع تحتها " الله المستعان " إعلاماً له أن لفظ " هذا " بالتشديد بمعنى الهذيان. وحكى العبّاس بن أسد. أن آبا الحسن عليَّ بن عيسى كتب إلى أبي الطيب أحمد بن عيسى كتاباً من مكه فقراه ثم رمى به إليّ فقال: اقرا! فقرات: كتابي إليك يوم القر فقلت القر البرد. فقال. أنما هو يوم القر بالفتح حين يقر الناس بمنى وهو اليوم الثانى من النحر. ومثل ذلك كثير. قال صاحب نهاية الأرب وقد اتسع الخرق في ذلك ودخل في الكتابة من لا يعرفها البتة وزادوا عن الإحصاء حتى إن فيهم من لا يفرق بين الضاد والطاء. قال: ولقد بلغني عن بعض من أدخل نفسه في الكتابة وتوسل إلى أن كتب في ديوان الرسائل: أنه رسم له بكتاب يكتبه في حق رجل اسمه طرنطاي فقال لكاتب إلى جانبه: طرنطاي يكتب بالساقط أو بالقائم قال: وصار الآن حد الكاتب عند هؤلاء الجهال أنه يكتب على المجود مدة ويتقن بزعمه اسطراً فإذا رأى من نفسه أن خطه قد جاد أدنى جودة أصلح بزته و ركب برذونه أو بغلته وسعى في الدخول إلى ديوان الإنشاء والانضمام إلى أهله. ولعل الكتابة إنما يحصل ذمها بسبب هؤلاء وأمثالهم. و لله در القائل!: عس الزمان! فقد أتى بعجاب ومحا فنون الفضل والآداب وأتى بكتاب لو انبسطت يدي فيهم رددتهم إلى الكتاب قلت: وإنما تقاصرت الهمم عن التوغل في صناعة الكتابة والأخذ منها بالحظ الأوفى لاستيلاء الأعجم على الأمر وتوسيد الأمر لمن لا يفرق بين البليغ والأنوك لعدم إلمامه بالعربية والمعرفة بمقاصدها حتى صار الفصيح لديهم أعجم والبليغ في مخاطبتهم أبكم ولم يسع الآخذ من هذه الصناعة بحظ إلا أن ينشد: وصناعتي عربية وكأنني ألقى بأكثر ما أقول الروما فلمن أقول وما أقول وأين لي فأسير لا بل أين لي فأقيما وقد حكى أبو جعفر النحاس عن بعضهم أنه قال: حضرت مجلس رجل فأحجمت عن مسألة حاجتني لكثرة جمعه فرأيته وقد أملى على كاتبه ولم أكتب بخطي إليك خوفاً من أن تقف على رداوت فكتب كتابه: رداوته على ما يجب فقال: أما تحسن الهجاء أين الواو فأثبتها وحكى صاحب ذخيرة الكتاب عن بعض الوزراء: أنه تقدم إلى كاتبه بأن يكتب ألقاب أمير ليثبتها على برج أنشأه فكتب: أمر بعمارة هذا البرج أبو فلان فلان. واستوفى ألقابه إلى آخرها ودفع المثال إلى الوزير ليقف عليه فلما قرأه غضب حتى ظهر الغضب في وجهه وأنكر على الكاتب كونه كتب أبو فلان بالواو ولم يكتب أبي فلان بالياء محتجاً عليه بأن أبو من ألفاظ العامة فلا تعظيم بها. فقال الكاتب: إن الحال اقتضت رفعه من حيث إنه في هذا الموضع فاعل فزاد إنكاره عليه وقال: متى رأيت الأمير فاعلاً في هذا الموضع يحمل وينقل الحجارة على رأسه حتى تنسبه إلى هذا والله لولا سالف خدمتك لفعلت بك!. قال ابن حاجب النعمان: ولما كان أرباب الأمور وولاتها من الخلفاء فمن دونهم ينقدون ما يكتب به الكتاب عنهم وما يرد عليهم من الكتب ويتناقشون على ما يقع فيها من خطأ أو يدخلها من خلل ويقدمون الفاضل ويرفعون درجته ويؤخرون الجاهل ويحطون رتبته كان الكتاب حينئذ يتبارون على اقتناء الفضيلة ويترفعون عن أن يعلق بهم من الجهل أدنى رذيلة ويجهدون في معرفة ما يحسن ألفاظهم ويزين مكاتباتهم لينالوا بذلك أرفع رتبة ويفوزوا بأعظم منزلة. ولما انعكست القضية في تقديم من غلط بهم الزمان وغفل عنهم الحدثان واستولت عليهم شرة الجهل ونفرت منهم أوانس الرياسة والفضل وصار العالم لديهم حشفاً والأديب محارفاً والمعرفة منكرة والفضيلة منقصة والصمت لكنه والفصاحة هجنة اجتنبت الآداب اجتناب المحارم وهجرت العلوم هجر كبائر المآثم. ولو أنصف أحد هؤلاء الجهال لكان بالحشف أولى وبالحرفة والمنقصة أجدر وأحرى لكنه جهل الواجبات وأضاعها وسفه حق المروءة وأفسد أوضاعها ويوصف بالحي الناطق والصامت أرجى منه عند أهل النظر وذوي الحقائق.
وبيان معنى الإنشاء وإضافة الكتابة إليه ومرادفة لفظ التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل. وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر وفيه ثلاثة فصول.
وإضافتها إليه ومرادفه التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل الكتابة في اللغة مصدر كتب يقال: كتب يكتب كتباً وكتاباً وكتابة ومكتبة وكتبة فهو كاتب ومعناها الجمع يقال تكتبت القوم إذا اجتمعوا ومنه قيل لجماعة الخيل كتيبة وكتبتن البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة أو سير ونحوه ومن ثم سمي الخط كتابة لجمع الحروف بعضها إلى بعض كما سمي خرز القربة كتابة لضم بعض الخرز إلى بعض. قال ابن الأعرابي: وقد تطلق الكتابة على العلم ومنه قوله تعالى: وعلى حد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في كتابه لأهل اليمن حين بعث إليهم معاذاً وغيره " إني بعثت إليكم كاتباً " قال ابن الأثير في غريب الحديث أراد عالماً. سمي بذلك لأن الغالب على من كان يعلم الكتابة أن عنده علماً ومعرفة وكان الكاتب عندهم قليلاً وفيهم عزيزاً. أما في الاصطلاح فقد عرفها صاحب مواد البيان: بأنها صناعة روحانية تظهر بآلة جثمانية دالة على المراد بتوسط نظمها. ولم يبين مقاصد الحد ولا ما دخل فيه مللا ما خرج عنه غير أنه فسر في موضع آخر معنى الروحانية فيها بالألفاظ التي يتخيلها الكاتب في أوهامه ويصور من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة قائمة في نفسه. والجثمانية بالخط الذي يخطه القلم وتقيد به تلك الصورة وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة. وفسر الآلة بالقلم وبذلك يظهر معنى الحد وما يدخل فيه ويخرج عنه ولا شك أن هذا التحديد يشمل جميع ما يسطره القلم مما يتصوره الذهن ويتخيله الوهم فيدخل تحته مطلق الكتابة كما هو المستفاد من المعنى اللغوي. على أن الكتابة وإن كثرت أقسامها وتعددت أنواعها لا تخرج عن أصلين هما: كتابة الإنشاء وكتابة الأموال وما في معناهما على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. إلا أن العرف فيما تقدم من الزمان قد خص لفظ الكتابة بصناعة الإنشاء حتى كانت الكتابة إذا أطلقت لا يراد بها غير كتابة الإنشاء والكاتب إذا أطلق لا يراد به غير كاتبها حتى سمى العسكري كتابه الصناعتين الشعر والكتابة يريد كتابة الإنشاء وسمى ابن الأثير كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. يريد كاتب الإنشاء إذ هما موضوعان لما يتعلق بصناعة الإنشاء من علم البلاغة وغيرها. ثم غلب في زماننا بالديار المصرية اسم الكاتب على كاتب المال حتى صار الكاتب إذا أطلق لا يراد به غيره وصار لصناعة الإنشاء اسمان: خاص يستعمله أهل الديوان ويتلفظون به وهو كتابة الإنشاء وعام يتلفظ به عامة الناس وهو التوقيع فأما تسميتها بكتابة الإنشاء فتخصيص لها بالإضافة إلى الإنشاء الذي هو أصل موضوعها وهو مصر أنشأ لاشيء إذا ابتدأه أو اخترعه على غير مثال يحتذيه بمعنى أن الكتاب يخترع ما يؤلفه من الكلام ويبتكره من المعاني فيما يكتبه من المكاتبات والولايات وغيرهما أو أن المكاتبات والولايات ونحوها تنشأ عنه. وأما تسميتها بالتوقيع فأصله من التوقيع على حواشي القصص وظهورها كالتوقيع بخط الخليفة أو السلطان أو الوزير أو صاحب ديوان الإنشاء أو كتاب الدست ومن جرى مجراهم بما يعتمد في القضية التي رفعت القصة بسببها ثم أطلق على كتابه الإنشاء جملة. قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب: ومعناه في كلام العرب التأثير القليل الخفيف يقال: جنب هذه الناقة موقع إذا أثرت فيه حبال الأحمال تأثيراً خفيفاً. وحكي أن أعرابية قالت لجارتها حديثك ترويع وزيارتك توقيع. تريد أن زيارتها خفيفة. قلت: ويحتمل أن يكون من قولهم: وقع الأمر إذا حق ولزم ومنه قوله تعالى: " ووقع القول عليهم بما ظلموا " أي حق أو من قولهم: وقع الصيقل السيف إذا أقبل عليه بميقعته يجلوه لأنه بتوقيعه في الرقعة يجلو اللبس بالإرشاد إلى ما يعتمد في الواقعة أو من موقعة الطائر. وهي المكان الذي يألفه من حيث إن الموقع على الرقعة يألف مكاناً منها يوقع فيه كحاشية القصة ونحوها أو من الموقعة بالتسكين: وهو المكان المرتفع في الجبل لارتفاع مكان الموقع في الناس وعلو شأنه أو غير ذلك. ووجه إطلاقه على كتابة الإنشاء أنه قد تقدم أن التوقيع في الأصل اسم لما يكتب على القصص ونحوها وسيأتي أن ما يكتب من ديوان الإنشاء من المكاتبات والولايات ونحوها إنما يبنى على ما يخرج من الديوان من التوقيع بخط صاحب ديوان الإنشاء أو كتاب الدست ومن في معناهم وحينئذ فيكون التوقيع هو الأصل الذي يبني عليه المنشئ وقد يكون سمي بأصله الذي نشأ عنه مجازاً وقد يعبر عنها بصناعة الترسل تسمية للشيء بأعم أجزائه إذ الترسل والمكاتبات أعظم كتابة الإنشاء وأعمها من حيث إنه لا يستغني عنها ملك ولا سوقة بخلاف الولايات فإنها مختصة بأرباب المناصب العلية دون غيرهم وعلى ذلك بنى الشيخ شهاب الدين محمود الحبي رحمه الله تسمية كتابه حسن التوسل إلى صناعة الترسل. قد تقدم في الفصل الذي قبله أن الكتابة وإن كثرت أقسامها وتعددت أنواعها لا تخرج عن أصلين: كتابة الإنشاء وكتابة الأموال. فأما كتابة الإنشاء فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تأليف الكلام وترتيب المعاني: من المكاتبات والولايات والمسامحات والإطلاقات ومناشير الإقطاعات والهدن والأمانات والأيمان وما في معنى ذلك ككتابة الحكم ونحوها. وأما كتابة الأموال فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تحصيل المال وصرفه وما يجري مجرى ذلك ككتابة بيت المال والخزائن السلطانية وما يجبى إليها من أموال الخراج وما في معناه وصرف ما يصرف منها من الجاري والنفقات وغير ذلك وما في معنى ذلك ككتابة الجيوش ونحوها مما ينجر القول فيه إلى صنعة الحساب ولا شك أن لكل من النوعين قدراً عظيماً وخطراً جسيماً إلا أن أهل التحقيق من علماء الأدب ما برحوا يرجحون كتابة الإنشاء ويفضلونها ويميزونها على سائر الكتابات ويقدمونها ويحتجون لذلك بأمور: منها أن كتابة الإنشاء مستلزمة للعلم بكل نوع من الكتابة ضرورة أن كاتب الإنشاء يحتاج فيما يكتبه من ولاياته ومكاتباته مما يتعلق بكتابة الأموال إلى أن يمثل لهم في وصاياه من صناعتهم ما يعتمدونه ويبين لهم ما يأتونه ويذرونه فلا بد أن يكون عالماً بصناعة من يكتب له بخلاف كاتب الأموال فإنه إنما يعتمد على رسوم مقررة وأنموذجات محررة لا يكاد يخرج منها ولا يحتاج فيها إلى تغيير ولا زيادة ولا نقص. ومنها اشتمال كتابة الإنشاء على البيان الدال على لطائف المعاني التي هي زبد الأفكار وجواهر الألفاظ التي هي حلية الألسنة وفيها يتنافس أصحاب المناصب الخطيرة والمنازل الجليلة أكثر من تنافسهم في الدر والجوهر. ومنها ما تستلزم كتابة الإنشاء من زيادة العلم وغزارة الفضيلة وذكاء القريحة وجودة الروية: لما يحتاج إليه من التصرف في المعاني المتداولة والعبارة عنها بألفاظ غير الألفاظ التي عبر بها من سبق إلى استعمالها مع حفظ صورتها وتأديتها إلى حقائقها وفي ذلك من المشقة ما لا خفاء فيه على من مارس الصناعة خصوصاً إذا طلب الزيادة والعلو على من تقدمه في استعمالها أو حذا حذو رسوم المبرزين الذين ينتحلون الكلام ويوقعونه مواقعة مع مراعاة رشاقة اللفظ وحلاوة المعنى وبلاغته ومناسبته مع ما يحتاجه من اختراع المعاني الأبكار للأمور الحادثة التي لم يقع مثلها ولا سبق سابق إلى كتابتها لأن الحوادث والوقائع لا تتناهى ولا تقف عند حد. ومن هنا تنقص الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر المقامات الحريرية وأزدراها جانحاً إلى أنه صور موضوعة في قوالب حكايات مبنية على مبدإ ومقطع بخلاف الكتابة فإن أهوالها غير متناهية ولو روعي حال ما يكتبه الكاتب في أدنى مدة لكان مثل المقامات مرات. ومنها اختصاص كاتب الإنشاء بالسلطان وقربه منه وإعظام خواصه واعتمادهم في المهمات عليه مع كونه أحرز بالسلامة من أرباب الأقلام المتصرفين في الأموال. وقد قال بعض الحكماء: الكتاب كالجوارح كل جارحة منها ترفد الأخرى في عملها بما به يكون فعلها وكاتب الإنشاء بمنزلة الروح الممازجة للبدن المدبرة لجميع جوارحه وحواسه. قال في مواد البيان: ولا شك في صحة هذا التمثيل لأن كاتب الإنشاء هو الذي يمثل لكل عامل في تقليده ما يعتمد عليه ويتصفح ما يرد منه ويصرفه بالأمر والنهى على ما يؤدي إلى استقامة ما عقد به وهو حليلة المملكة وزينتها لما يصدر عنه من البيان الذي يرفع قدرها ويعلى ذكرها ويعظم خطرها ويدل على فضل ملكها وهو المتصرف عن السلطان في الوعيد والترغيب والإحماد والإذمام واقتضاب المعاني التي تقر الوالي على ولايته وطاعته وتعطف العدو العاصي عن عداوته ومعصيته. على أن بعض المتعصبين قد رجح كتابة الأموال على كتابة الإنشاء بمغالطات أوردها وتزويرات زخرفها ونمقها لا تخفى على متأمل ولا تتغطى على ذي ذهن سليم. وقد أورد الحريري في المقامة الثانية والعشرين المعرفة بالفراتية ألفاظاً قلائل في المفاخرة بين كتابتي الإنشاء والأموال فقال على لسان أبي زيد السروجي: اعلموا أن صناعة الإنشاء أرفع وصناعة الحساب أنفع وقلم المكاتبة خاطب وقلم المحاسبة حاطب وأساطير البلاغة تنسخ لتدرس ودساتير الحسبانات تنسخ وتدرس والمنشئ جهينة الأخبار وحقيبة الأسرار ونجي العظماء وكبير الندماء وقلمه لسان الدولة وفارس الجولة: ولقمان الحكمة وترجمان الهمة وهو البشير والنذير والشفيع والسفير به تستخلص الصياصي وتملك النواصي ويقتاد العاصي ويستدنى القاصي وصاحبه برئ من التبعات آمن كيد السعات مقرظ بني الجماعات غير معرض لنظم الجماعات. ثم عقب كلامه بأن قال: إلا أن صناعة الحساب موضوعة على التحقيق وصناعة الإنشاء مبنية على التلفيق وقلم الحاسب ضابط وقمل المنشئ خابط وبين إتاوة توظيف المعاملات وتلاوة طوامير السجلات بون لا يدركه قياس ولا يعتوره التباس إذ الإتاوة تملأ الأكياس والتلاوة تفرغ الرأس وخراج الأوارج يغني الناظر واستخراج المدارج يعني الخاطر. ثم إن الحسبة حفظة الأموال وحملة الأثقال والنقلة الأثبات والسفرة الثقات وأعلام الإنصاف والانتصاف والشهود المقانع في الاختلاف ومنهم المستوفي الذي هو يد السلطان وقطب الديوان وقسطاس الأعمال والمهيمن على العمال وإليه المآل في السلم والهرج وعليه المدار في الدخل والخرج وبه مناط الضر والنفع وفي يده رباط الإعطاء والمنع ولولا قلم الحساب لاودت ثمرة الاكتساب ولاتصل التغابن إلى يوم الحساب ولكان نظام المعاملات محولاً وجرح الظلامات مطولاً وجيد التناصف مغولاً وسيف التظالم مسلولاً وجرح الظلامات مطلولاً وجيد التناصف مغولاً وسيف التظالم مسلولاً. على أن يراع الإنشاء متقول ويراع الحساب متأول والحاسب مناقش والمنشئ أبو براقش ولكليهما حمة حين يرقى إلى أن يلقى ويرقى وإعنات فيما ينشا حتى يغشى ويرش قلت: وقد أوردت في المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء المشار إليها بالذكر في خطبة هذا الكتاب من فضل الكتابة ما يشدو بذكره المترنم وأودعتها من شرف الكتاب ما يذعن له الخصم ويسلم.
اعلم أن الشعر وإن كان له فضيلة تحضه ومزية لا يشاركه فيها غيره من حيث تفرده باعتدال أقسامه وتوازن أجزائه وتساوي قوافي قصائده مما لا يوجد في غيره من سائر أنواع الكلام مع طول بقائه على ممر الدهور وتعاقب الأزمان وتداوله على ألسنة الرواة وأفواه النقلة لتمكن القوة الحافظة منه بارتباط أجزائه وتعلق بعضها ببعض مع شيوعه واستفاضته وسرعة انتشاره وبعد مسيره وما يؤثره من الرفعة والضعة باعتبار المدح والهجاء وإنشاده بمجالس الملوك الحافلة والمواكب الجامعة التقريط وذكر المفاخر وتعديد المحاسن وما يحصل عليه الشاعر المجيد من الحباء الجسيم والمنح الفائق الذي يستحقه بحسن موقع كلامه من النفوس وما يحدثه فيها من الأريحية وقبوله لما يرد عليه من الألحان المطربة المؤثرة في النفوس اللطيفة والطباع الرقيقة وما اشتمل عليه من شواهد اللغة والنحو وغيرهما من العلوم الأدبية وما يجري مجراها وما يستدل به منها في تفسير القرآن الكريم وكلام من أوتي جوامع الكلم ومجامع الحكم صلى الله عليه وسلم وكونه ديوان العرب ومجتمع تمكنها والمحيط بتواريخ أيامها وذكر وقائعها وسائر أحوالها إلى غير ذلك من الفضائل الجمة والمفاخر الضخمة فإن النثر أرفع منه درجة وأعلى رتبة وأشرف مقاماً وأحسن نظاماً إذ الشعر محصور في وزن وقافية يحتاج الشاعر معها إلى زيادة الألفاظ والتقديم فيها والتأخير وقصر الممدود ومد المقصور وصرف ما لا ينصرف ومنع ما ينصرف من الصرف واستعمال الكلمة المرفوضة وتبديل اللفظة الفصيحة بغيرها وغير ذلك مما تلجئ إليه ضرورة الشعر فتكون معانيه تابعة لألفاظه والكلام المنثور لا يحتاج فيه إلى شيء من ذلك فتكون ألفاظه تابعة لمعانيه ويؤيد ذلك أنك إذا اعتبرت ما نقل من معاني النثر إلى النظم وجدته قد انحطت رتبته. ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: " قيمة كل امرئ ما يحسن " أنه لما نقله الشاعر إلى قوله: فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي فقيمة كل الناس ما يحسنونه قد زادت ألفاظه وذهبت طلاوته وإن كان قد أفرد المعنى في نصف بيت فإنه قد احتاج إلى زيادة مثل ألفاظه مرة أخرى توطئه له في صدر البيت ومراعاة لإقامة الوزن وزاد في قوله فقيمة فاء مستكرهة ثقيلة لا حاجة إليها وأبدل لفظ امرئ بلفظ الناس ولا شك أن لفظ امرئ هنا أعذب وألطف وغير قوله يحسن إلى قوله يحسنونه والجمع بين نونين ليس بينهما إلا حرف ساكن غير معتد به مستوخم وإذا اعتبرت ما نقل من معاني النظم إلى النثر وجدته قد نقصت ألفاظه وزاد حسناً ورونقاً ألا ترى إلى قول المتنبي يصف بلداً قد علقت القتلى على أسوارها: وكان بها مثل الجنون فأصبحت ومن جثث القتلى عليها تمائم كيف نثره الوزير ضياء الدين بن الأثير في قوله يصف بلداً بالوصف المتقدم: وكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم وعلق عليها من رؤوس القتلى تمائم فإنه قد جاء في غاية الطلاوة خصوصاً مع التورية الواقعة في ذكر العزائم مع ذكر الجنون وهذا في النظم والنثر الفائقين ولا عبرة بما عداهما. وناهيك بالنثر فضيلة أن الله تعالى أنزل به كتابه العزيز ونوره المبين الذي بخلاف النثر فإن المقصود الأعظم منه المخطب والترسل وكلاهما شريف الموضع حسن التعليق إذا الخطب كلام مبني على حمد الله تعالى وتمجديه وتقديسه وتوحيده والثناء عليه الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم والتذكير والترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا والحض على طلب الثواب و الأمر بالصلاح والإصلاح والحث على التعاضد والتعاطف ورفض التباغض والتقاطع وطاعة الأئمة وصلة الرحم ورعاية الذمم وغير ذلك مما يجري هذا المجرى مما هو مستحسن شرعاً وعقلاً. و حسبك رتبة قام بها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون بعده. والترسل مبني على مصالح الأمة وقوام الرعية لما يشتمل عليه من مكاتبات الملوك وسراة الناس في مهمات الدين وصلاح الحال وبيعات الخلفاء وعهودهم وما يصدر عنهم من عهود الملوك وما يلتحق بذلك من ولايات أرباب السيوف والأقلام الذين تهم أركان الدولة وقواعدها. إلى غير ذلك من المصالح التي لا تكاد تدخل تحت الإحصاء ولا يأخذها الحصر. قال في مواد البيان: وقد أحست العرب بانحطاط رتبة الشعر عن الكلام المنثور كما حكي أن امرأ القيس بن حجر هم أبوه بقتله حين سمعه يترنم في مجلس شرابه بقوله: وما يروى أن النابغة الجعدي كان سيداً في قومه لا يقطعون أمراً دونه وأن قول الشعر نقصه وحط رتبته. قال: ولا عبرة بما ذهب إليه بعضهم من تفضيل الشعر على النثر إتباعاً لهواه بدون دليل واضح. قال في الصناعتين: ومع ذلك فإن أكمل صفات الخطيب والكاتب أن يكونا شاعرين كما أ من أتم صفات الشاعر أن يكون خطيباً كاتباً. قال: والذي قصر بالشعر كثرته وتعاطي كل أحد له حتى العامة والسفلة فلحقه بالنقص ما لحق الشطرنج حين تعاطاه كل أحد. وسيأتي الكلام على احتياج الكاتب للشرع في بيان ما يحتاج إليه الكاتب فيما بعد إن شاء الله تعالى! وفيه فصلان وهي على ضربين وهي عشر صفات الصفة الأولى الإسلام ليؤمن فيما يكتبه ويمليه. ويوثق به فيما يذره ويأتيه إذ هو لسان المملكة والمرهب للعدو بوقع كلامه والجاذب للقلوب بلطف خطابه فلا يجوز أن يولى أحد من أهل الكفر إذ يكون عيناً للكفار على المسلمين ومطلعاً لهم على خفاياهم فيصلون به إلى ما لا يمكن استدراكه وقد قال تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذو بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم ومنا تخفي صدورهم أكبر " والمراد بالبطانة في الآية من يطلع على حال المسلمين كالإطلاع على مقدار خزائنهم من المال وأعداد جيوشهم من الخيل والرجال. قال أبو الفضل الصوري في تذكرته: وإن من الفطرة التي جبل كل أحد عليها حنين كل شخص من الناس إلى من يرى رأيه ويدين دينه. قال: وهذا أمر يجده كل أحد في نفسه ولذلك شرط بعضهم في الكاتب أن يكون على مذهب الملك الذي يتمذهب به من مذاهب المسلمين ليكون موافقاً له من كل وجه. ولما فتحت الصحابة رضوان الله عليهم مصر بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص يأمره أن لا يستعمل في عمل من أعمال المسلمين كافراً فأجابه عمرو: بأن المسلمين إلى الآن لم يعرفوا حقيقة البلاد ولم يطلعوا على مقادير خراجها وقد اجتهدت في نصراني عارف منسوب إلى أمانة إلى حين معرفتنا بها فنعزله فغضب عمر رضي الله عنه وقال: كيف تؤمنهم وقد خونهم الله وكيف تعزهم وقد أذلهم الله وكيف تقربهم وقد أبعدهم الله ثم تلا " يأيها وقد روي أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فأعجب عمر بخطه وحسابه فقال عمر: أحضر كاتبك ليقرأ فقال أبو موسى: إنه نصراني لا يدخل المسجد. فزبره عمر رضي الله عنه وقال: لا تؤمنوهم وقد خونهم الله ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تغزوهم وقد أذلهم الله. وقد قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الأم: ما ينبغي لقاض ولا وال أن يتخذ كاتباً ذمياً ولا يضع الذمي موضعاً به مسلماً. ويعز على المسلمين أن يكون لهم حاجة إلى غير مسلم. وجزم الماوردي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم من أصحابنا الشافعية رحمهم الله أنه يشترط في كاتب القاضي أن يكون مسلماً وهو الأصح الذي عليه الفتيا في المذهب. وإذا اشترط الإسلام في كاتب القاضي والوالي ففي كاتب السلطان أولى لعموم النفع والضر به. قال أبو الفضل الصوري: ولا شك أن كاتب الإنشاء من أحوج الناس إلى الاستشهاد بكلام الله تعالى في أثناء محاوراته وفصول مكاتباته والتمثل بنواهيه وأوامره و التدبر لقوارعه وزواجره وهو حلية الرسائل وزينة الإنشاءات وهو الذي يشد قوى الكلام ويثبت صحته في الإفهام فمتى خلت منه كانت عاطلة من المحاسن عارية من الفضائل: لأنه الحجة التي لا تدحض والحقيقة التي لا ترفض فإذا كان الكاتب غير مسلم لم يكن لدي من ذلك شيء وكانت كتابته معسولة من أفضل الكلام وخالية مما يتبرك به أهل الإيمان والإسلام ومقصرة عن رتبة الكمال ومنسوبة إلى العجز والإخلال. فإن تعاطى الكاتب الذمي حفظ شيء منه وكتبه فقد أبيحت حرمة كتاب الله تعالى وانتهكت وأمكن منه من يتخذه هزواً ولعباً والله سبحانه يقول في كتابه المكنون: فقد صح أنه لا يجوز أن يرقى إلى هذه الرتبة إلا مسلم. قال: ولا يحتج بالصابئ وأنه كتب للمطيع والطائع من خلفاء بني العباس ومعز الدولة وعز الدولة من ملوك الديلم وهما يومئذ عمدة الإسلام وعضد الخلافة وهو على دين الصابئة. فإن الصابئ كان من أهل ملة قليل أهلها ليس لهم ذكر ولا مملكة وليس منهم محارب لأهل الإسلام ولا لهم دولة قائمة فتخشى غائلته وتخاف عاقبته. الصفة الثانية الذكور فقد صرح أصحابنا الشافعية بأنه يشترط في كاتب القاضي أن يكون ذكراً وإذا اشترط ذلك في كاتب القاضي ففي كاتب السلطان أولى لما تقدم من عموم النفع والضر به وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في حق النساء: جنبوهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف واستعينوا عليهن بلا: فإن نعم تضريهن في المسألة. ومر علي كرم الله وجهه على رجل يعلم امرأة الخط فقال: لا تزد الشر شراً. ورأى بعض الحكماء امرأة تتعلم الكتابة فقال: أفعى تسقى سماً. ولله البسامي حيث يقول!: ما للنساء وللكتا بة والعمالة والخطابة! هذا لنا ولهن منا أن بتتن على جنابه فإن قيل: قد كان جماعة من النساء يكتبن ولم يرد أن أحداً من السلف أنكر عليهن ذلك فقد روى أبو جعفر النحاس بسنده إلى الحسن أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تكتب في مكاتباتها بعد البسملة: من المبرأة عائشة بنت أبي بكر حبيبة حبيب الله. وحكى جعفر بن سعيد أنه ذكر لعمرو ابن مسعدة كاتب المأمون توقيعات جعفر بن يحيى فقال: قرأت لأم جعفر توقيعات في حواشي الكتب وأسافلها فوجدتها أجود اختصاراً وأجمع للمعاني. وذكر محمد بن علي المدائني في كتاب: القلم والدواة. أن عاملاً لزبيدة كتب إليها كتاباً فوقعت في ظهره أن أصلح كتابك وإلا صرفناك عن عملك. فتأمله فلم يظهر له فيه شيء فعرضه على بعض إخوانه فرأى فيه الدعاء لها: وأدام كرامتك فقال: إنها تخيلت أنك دعوت عليها فإن كرامة النساء دفنهن فغير ذلك وأعاد الكتاب إليها فقبلته ومن كان هذا شأنه فكيف يقال إنه لم يؤهل للكتابة. فالجواب أن حديث عائشة لم يصرح فيه بأنها كتبت بنفسها ولعها أمرت من يكتب فكتب كذلك بإملائها أو دونه وإن ثبت ذلك عنها فغيرها لا يقاس عليها ومن عداها من النساء لا عبرة به. الصفة الثالثة الحرية فقد شرطوا في كاتب القاضي أن يكون حراً: لما في العبد من النقص فلا يعتمد في كل القضايا ولا يوثق به في كل الأحوال فكاتب السلطان كذلك بل أولى كما تقدم. الصفة الرابعة التكليف كما في كاتب القاضي فلا يعول على الصبي في الكتابة إذ لا وثوق به ولا اعتماد عليه. الصفة الخامسة فلا يجوز أن يكون الكاتب فاسقاً فإنه بمنزلة كبيرة ورتبة خطيرة يحكم بها في أرواح الناس وأموالهم: لأنه لو زاد أدنى كلمة أو حذف أيسر حرف أو كتم شيئاً قد علمه أو تأول لفظاً بغير معناه أو حرفه عن جهته أدى ذلك إلى ضرر من لا يستوجب الضرر ونفع من يجب الإضرار به وكان قد موه على الملك حتى مدح المذموم وذم الممدوح. فمتى لم يكن له دين يحجزه عن ارتكاب المآثم ويزعه عن احتقاب المحارم كان الضر به أكثر من الانتفاع وأثر فعله من الأضرار ما لم تؤثره السيوف ولله القائل!: ولضربة من كاتب ببنانه أمضى وأقطع من رقيق حسام قوم إذا عزموا عداة حاسد سفكوا الدما بأسنة الأقلام وأيضاً فإنه لا يقبل قول الفاسق فتضيع به المصالح وربما حمله الفسق وعدم الاكتراث بأمور الدين على وهن يدخله على الدين بقلمه أو ضرر يجلبه بلسانه. وأيضاً فالكتابة ولاية شرعية والفاسق لا تصح توليته شيئاً من أمور المسلمين وقد أطلق القاضي أبو الطيب والماوردي من أصحابنا الشافعية القول باشتراط العدالة في كاتب القاضي فيجب مثله في كاتب السلطان بل أولى على ما تقدم. البلاغة بحيث يكون منها بأعلى ربتة وأسنى منزلة فإنه لسان السلطان الذي ينطق به ويده التي بها يكتب. ورب كاتب بليغ أصاب الغرض في كتابته فأغنى عن الكتائب وأعمل القلم فكفاه إعمال البيض القواضب وإذا كان جيد الفطنة صائب الرأي حسن الألفاظ تتأتى له المعاني الجزلة فيجلوها في الألفاظ السهلة ويختصر حيث يكون الاختصار ويطيل حيث لا يجد عن الإطالة بداً ويتهدد فيملأ القلوب روعة ويشكر فيلقي على النفوس مسرة وإن كتب إلى ملك كبير وذي رتبة خطير عظم مملكة سلطانه وفخمها في معارض كلامه من غير أن يوجد أن ذلك قصده. الصفة السابعة وفور العقل وجزالة الرأي فإن العقل أس الفضائل وأصل المناقب ومن لا عقل له لا انتفاع به وكلام المرء ورأيه على قدر عقله فإذا كان تام العقل كامل الرأي وضع الأشياء في مكاتباته ومخاطباته في مواضعها وأتى بالكلام من وجهه وخاطب كل أحد عن سلطانه بما يقتضيه الحال التي يكون عليها فيشتد ما كانت الشدة نافعة ويلين حين يكون إلى اللين محتاجاً ويوبخ من لا يقتضي فعله أكثر من التوبيخ ويذم من تعدى إلى ما يستوجب الذم ويأتي بالمكاتبات التي يقتضيها اختلاف الأحوال واقعة مواقعها صائبة مراميها. الصفة الثامنة العلم بمواد الأحكام الشرعية والفنون الأدبية وغيرها مما يأتي بيانه إذ الجاهل لا تمييز له بين الحق والباطل ولا معرفة ترشده إلى الطريق المعتبرة في الكتابة ومن سلك طريقاً بغير دليل ضل أو تمسك بغير أصل زل. الصفة التاسعة قوة العزم وعلو الهمة وشرف النفس فإنه يكاتب الملوك عن ملكه وكل كاتب يجذبه طبعه وجبلته وخيمه في الكتابة إلى ما يميل إليه ومكاتبة الملوك أحوج شيء إلى التفخيم والتعظيم وذكر التهاويل الرائعة والأشياء المرغبة فكلما كان الكاتب أقوى نفساً وأشد عزماً وأعلى همة كان في ذلك أمضى وعليه أقدر الصفة العاشرة الكفاية لما يتولاه لأن العجز يدخل الضرر على المملكة ويوجب الوهن في أمر المسلمين وربما عاد عليهم عجزه بالوبال أو أدى بهم ضعفه إلى الاضطراب والاختلال.
قال المهذب بن مماتي في كتابه قوانين الدواوين: ينبغي أن يكون الكاتب أديباً حاد الذهن قوي النفس حاضر الحس جيد الحدس حلو اللسان له جراءة يثبت بها الأمور على حكم البديهة وفيه تودة يقف بها فيما لا يظهر له على حد الروية شريف الأنفة عظيم النزاهة كريم الأخلاق مأمون الغائلة مؤدب الخدام. قال محمد بن إبراهيم الشيباني: من صفة الكاتب اعتدال القامة وصغر الهامة وخفة اللهازم وكثاثة اللحية وصدق الحس ولطف المذهب وحلاوة الشمائل وخطف الإشارة وملاحة الزي. قال: ومن حاله أيضاً أن يكون بهي الملبس نظيف المجلس ظاهر المروءة عطر الرائحة دقيق الذهن حسن البيان رقيق حواشي اللسان حلو الإشارة مليح الاستعارة لطيف المسلك مستفره المركب ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثة متفاوت الأجزاء طويل اللحية عظيم الهامة فإنهم زعموا أن هذه الصفات لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة ولله القائل!: وشمول كأنما اعتصروها من معاني شمائل الكتاب وقال أبو الفضل الصوري: ينبغي أن يكون الكاتب فصياً بليغاً أديباً سني الرتبة قوي الحجة شديد العارضة حسن الألفاظ له ملكة يقتدر بها على مدح المذموم وذم المحمود. قال المهذب بن مماتي: أما حسن الهيئة فإنه يرجع في ذلك إلى ما يعلمه من حال مخدومه من إيثاره إظهار نعمته على من هو خدمته أو إخفائها. قلت: وهذا قد يخالف ما تقدم: من أنه ينبغي أن يكون الكاتب بهي الملبس. وبالجملة ففصاحة اللسان وقوة البيان والتقدم في صناعة الكتابة هو الذي يرفع الرجل ويعظمه دون أثوابه البهية هيئته الزاهية. بل ربما كان التعظيم في الفضل لرث الحالة المنحط الجانب أكثر وترجيحه على غيره أقرب. وقد قال سهل بن هرون كاتب المأمون وهو من أئمة هذه الصناعة: لو أن رجلين خطبا أو تحدثا أو احتجا أو وصفا وكان أحدهما جميلاً بهياً ولباساً نبيلاً وذا حسب شريف وكان الآخر قليلاً قميئاً وباذ الهيئة دميماً وخامل الذكر مجهولاً ثم كان كلامهما في مقدار واحد من البلاغة وفي درب واحد من الصواب لتصدع عنهما الجمع وعامتهم يقضي للقليل الدميم على النبيل الجسيم وللباذ الهيئة على ذي الهيئة ويشغلهم التعجب منه عن مناوأة صاحبه ولصار التعجب على مساواته له سبباً للتعجب به والإكثار في شأنه علة للإكثار في مدحه لأن النفوس كانت له أحقر ون بيانه أيأس ومن حسده أبعد فلما ظهر منه خلاف ما قدروه وتضاعف حسن كلامه في صدورهم كبر في عيونهم: لأن الشيء من غير معدنه أغرب وكلما أعجب كان أبدع وإنما ذلك كنوادر الصبيان وملح المجانين فإن استغراب السامعين لذلك أعجب وتعجبهم منه أكثر. قال: والناس موكلون بتعظيم الغريب واستظراف البديع وليس لهم في الموجود الراهن ولا فيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل وفي النادر الشاذ وعلى هذا السبيل يستظرفون القادم إليهم ويرحلون إلى النازح عنهم ويتركون من هو أعم نفعاً وأكثر في وجوه العلم تصرفاً وأخف مؤونة وأكثر فائدة.
وهي على نوعين
ولذلك شروط ولوازم منها اعتماد تقوى الله تعالى في الإسرار والإعلان والإظهار والإبطان والمحافظة عليها والاستناد إليها في مبادي الأمور وعواقبها. فإنه العروة التي لا تنفصم والحبل الذي لا ينصرم والركن الذي لا ينهدم والطريق التي من سلكها اهتدى ومن حاد عنها ضل وتردى والمحافظة على شرائع الدين التي فرضها الله تعالى على خلقه والحذر من الاستخفاف فيها. بحقه وتوقي غضبه بتأديتها والاستجنان من شقاء الدنيا والآخرة بتوقيها. ومنها طلب الأجر بما ينيله من عز سلطانه ويجديه من فواضل نعمائه وهذا هو أصح الأغراض التي يجب على كل عاقل أن يقدمه على كل غرض ويحصل منه على السهم الوافر فلا خير في دنيا تنقطع السعادة عنها وإنما السعادة بعد الموت والطريق الموصل إلى هذا المقصد صلاح النية فيما يتولاه من أمور السلطان وقصد النفع العام له ولرعيته والاجتهاد في إغاثة الملهوف والأخذ بيد الضعيف والنفع بجاهه عند سلطانه وحمله على العدل في الرعية فإذا توخى ذلك فاز بثواب الله تعالى وقضى حق السلطان فيما عرضه له من الشكر والأجر وقابل نعمة الله التي أقدره بها على هذه الأفعال الجميلة بما يرتبطها ومنها: مجانبة الريب والتنزه عنها والطهارة منها. فإنها تسخط الله تعالى وتذهب بمهابة المرء وتسقطه من العيون والقلوب. وأحق من راعى ذلك من نفسه من بين أتباع السلطان أهل هذه الصناعة لاختصاصهم به ولطف منزلتهم عنده. إذ المشهور عند نقلة الآثار أن الذين تقدموا من صدورها ومشايخها كانوا من جلة العلماء وسادة الفقهاء وأفاضل أهل الورع المبرئين من الدنس والطمع المميزين على القضاة والحكام في الاستقلال بعلوم الإسلام المتميزين عنهم بفضل الآداب ورواية الأشعار والعلم بالأيام والسير والارتياض بآداب الملوك وعشرتهم ورسوم صحبتهم وغير ذلك مما ينتظم في صناعتهم. فقد ساووهم في علم الدين وفاقوهم فيما تقدم ذكره مما لا يشاركونهم فيه. والسلطان والدين قرينان لا يفترقان وعونان على صلاح البلاد والعباد فلا يحتمل السلطان ما ينكره الدين لأنه تابعه ورديفه. ومنها: لزوم العفاف والصيانة فيما يتولاه للسلطان من أعماله ويتصرف فيه من أشغاله والتعفف عن المطامع الذميمة والمطاعم الوخيمة والترفع عن المكاسب اللئيمة فإن ذلك يجمع القربة إلى الله تعالى والحظوة عند السلطان وجميل السيرة عند الرعية حتى إن هذه الطريقة قد تقدم بها عند السلطان المتخلفون في الفهم والمعرفة وسادوا على من لا يقاربونه في غناء ولا كفاية وحصلوا على الأحوال السنية والمنازل العلية وقرب بها من كان بعيداً على من كان قريباً ومن لا مكانة له ولا حرمة على من له مكانة وحرمة واستبدني لأجلها من لأجلها من لا يترشح لخدمة السلطان. ثم الذي يلزمه أن يعتمد التمسك بالصيانة والعفاف الذي عليه نظام معيشته والارتفاق فيما يحل ويطيب له من جاه خدمته فإن قد قيل الزم الصحة يلزمك العمل لأنه يتمنع من المنافع التي تصل إليه من أطيب المكاسب وتسلم من تبعات العاجل والآجل وتخلص من قبيح الأحدوثة وإطلاق ألسن الحسدة بالطعن والتأنيب وينال بجاه السلطان ونفوذ الأمر من غير خيانة للمؤتمن ولا اشتكاء للرعية فإنه لولا هذه المنافع لغي الإنسان بالقناعة ورضي بالكفاف وسلم من المخاطرة بدينه ودنياه في سلامة السلطان. إذ لا يجوز أن يستفرغ وسعه ويعرض نفسه للخطر فيما لا تحسن له عائدة ولا تخلص منه فائدة في جاه ولا مال. وقد علم ما كان عليه أهل هذه الطبقة في سائر الدول وما حصلوه من الذخائر واقتنوه من القنيات النفيسة التي أقدرتهم على إظهار مروءاتهم واتخاذ الصنائع عند الأحرار وحراسة النعم على الدوائر والأعقاب. وإنما حصلوا على ذلك من حيث معرفتهم بوجوه المكاسب وأبواب المرافق لا من الخيانة وذميم الطعم. لأنهم كانوا في أزمنة لا يغضى فيها عن متكسب من رشوة ولا مصانعة ولا اغتصاب ولا سبب من أسباب الظلم وإن جلت منزلته وعظمت مرتبته. ومنها طلب الثناء والحمد وهو من أفضل المقاصد السنية وأعلاها رتبة لأنه يتلو الأجر في البقاء والدوام وكلما كانت الهمة أعظم وأشرف كانت إليه أرغب وبه أكلف. ولفضل هذا رغب فيه الأشراف وعليه الناس حتى قال الخليل عليه السلام وأولى الناس باقتناء ذخائر الحمد وافتراض فرض الشكر من عرض الله جاهه وطول يده وأمضى عند السلطان لسانه فينبغي أن يختار هذه المكرمة ويقوم بالنصيب الأوفر منه ولا يبخل بجاهه ولا ماله على قاصد ولا مؤمل ولا ذي رحم وذمام ولا يضجع في أمر بطانته وحاشيته وأصاحبه ولا يضيق عليهم مع سعته ولا يقصر بهم في كفايته ويجعل اكتسابها بجاهه وماله دون أموال سلطانه فإن كثيراً من المتصرفين بذلوا ما اؤتمنوا عليه في هذا الغرض ورضوا به أهل الشفاعات والرسائل فأعقبهم ذلك زوال النعم وسقوط الرتبة وذهاب المال والوسم بميسم الخيانة والبوار إلى الأبد. ولا يبالغ في ابتناء المعالي واقتناء المحامد وبذل الرغائب وارتفاع الهمم فإن ذلك مما يختص بالملوك ولا ينبغي لأحد من أتباعهم من كاتب ولا غيره الإقدام عليه مفاخراً ولا مكاثراً ولا مقابساً فيكون قد عدا طوره وأضل رشده وتعرض للعطب مع سلطانه وأوجد الطريق إلى سوء الظن به وفوق سهام الحسدة إليه وأطلق أسنتها بالطعن عليه وربما أدى به ذلك إلى سقوط المنزلة أن سلمت نفسه. ومنها الاقتصاد في طلب اللذة والاقتصار من ذلك على ما يقيم المروءة من أفضل الأخلاق وأشرفها: بأن يكون تناولهم ما يتناولونه من ذلك بسلوك طريقة محمودة يظهر فيها أثر التدبير السديد والرأي الأصيل من غير خروج إلى الإقبال على اللذات والانهماك في الشهوات. فإن ذلك غير مستحسن لملك ولا سوقة لأنه جالب للأسقام قاطع عن الأمور المهمة التي يجب صرف العناية إليها في صلاح المعاش وأمر الآخرة ولكن لا يكلف ترك اللذات جملة إذ لا بد لكل أحد من ذوي الرتبة العلية من الأخذ بنصيب منها لما جبلت عليه الطبائع من الميل إليها والرغبة في الاستمتاع بالنعم والملاذ ولكل منها حظ يضاهي رتبته. وأهل هذه الصنعة لاختلاطهم بالملوك ومشاركتهم لهم في آدابهم لا غنى بهم عما يقيم مروءاتهم من اللذات المشابهة لأقدارهم ومواضعهم من السلطان.
حسن العشرة التي هي من أفضل الخلائق الموجودة في الغرائز طبعاً والحاصلة بالتخلق تكسباً وتطبعاً وأعونها لمصالح الحياة والمعاش ومحبة الخاصة والعامة وحصول الثناء والشكر والمودة من الأفضل والأخيار وكفاية الأراذل الأشرار وإن لم يلتزمها الكاتب طوعاً حمل عليها كرهاً. واعلم أن أدب المعاشرة على خمسة أضرب. عشرة الملوك والعظماء قال علي بن خلف: ولا يقوم بآدابها وأكمل رسومها إلا من علت في الأدب درجته وسمت في رجاحة العقل منزلته وتميز بغريزة فاضلة وأدب مكتنسب وصبر على المشاق في التحلي بالهمم الشريفة والسمو إلى المنازل اللطيفة من عز السلطان ومساعدة الزمان وتمكن من تصريف النفسين الحيوانية والشهوانية على أغراض الناطقية ومطاوعتها وأخذهما بقبول ما ترشد إليه وتبعث عليه لأن صحبة السلطان أمر عظيم وصاحبه راكب خطر جسيم بتمليكه نفسه لمتحكم في شعره وبشرهن قادر على نفعه وضره لا يردعهن مقابلته على يسير الخيانة بكبير النكابة إلا ما يؤمل من صفحه ومسامحته ويرجو من عطفه ورأفته. وأول ما يجب على المتصل بخدمة السلطان النظر في عواقب أموره وحفظ نفسه من جريرة يجرها عليها بإغفاله فرضاً من فروض طاعته وتضيعه المحافظة على حقوق خدمته والعلم بأن لكل مصحوب خلقاً يغلب عليه ويرجع بغريزة الطبع إيه لا يمكنه النزوع عنه ولا المفارقة له إذ الانتقال عن الطباع شديد الامتناع في الخدم والأتباع فيكف الملوك والرؤساء الذين لا يقابلون بلوم على خلق مذموم بل العادة جارية في أدب خدمتهم بأن يصوبوا ما يركبونه من خطإ وحسنوا متات يواقعونه من قبح فعليه أن ينزل عن أخلاقه لأخلاق سلطانه وما خلف سجيته في إصلاح زمانه وأن ينزل عن هواه لهواه ويتبع فيما يسخطه ويأباه ما يؤثره سلطانه ويرضاه. وينبغي أن لا يعرض نفسه لما يسقط منزلته ويفسد عاقبته ولا يوجد للزمن طريقاً إلى التنكر له ويعينه بتفويق سهامه والتصدي لمواقعها. وقد علم أن الزمان وأن عم بنوائبه فإنه يخص صاحب السلطان منا بما يزيد على نصيب غيره. ومن أشق الأحوال أن يدفع الإنسان إلى تغير السلطان مع كون السبب في ذلك شيئاً جره إلى نفسه بسوء اختياره لما يجتمع عليه في ذلك من مرارة النكبة وحرارة المغبة وتقريع من يزري على عقله ويؤنبه بجهله. ثم أنه لزمه بعد الاحتياط فيما تقدم عدة خصال أيضاً. منها الإخلاص وهو قوام الأمر في المصاحبة فإن من صحب سلطاناً بعقيدة مدخولة في ولايته مشوبة في محبته لم ينتظم له ولا لسلطانه أمر لأن الضمائر المذوقة والنيات السقيمة لا بد أن يصرح بما فيها ويظهر ما في دخيلتها وإذا اتضح ذلك للسلطان لم يقنع إلا بإتلاف نفسه وإذهاب مهجته. ومنها النصيحة وهي ترب الإخلاص. والطريق الموصل إلى التوفية بها أن يطالع السلطان بكل ما يفتقر إلى العلم به من خاص أموره وعامها وعلى من استخلصه السلطان لنفسه ائتمنه على رعيته وأنطقه بلسانه وأخذ وأعطى بيده وأورد وأصدر برأيه وتخيره لهذه المنزلة من بين رؤساء دولته وأعيان مملكته أن لا يستر عنه دقيقاً ولا جليلاً من أحوال ما فوضه إليه ولا يقف عن إنهاء تفاصيله وجمله توقياً من لوم لائم ولا يحمله فرط النصح له على الإضرار برعيته ولا الرغبة في إثبات حقه على تضييع حقوقها ولا القيام بما يجب له دون ما يجب لها. فإنها به وهو بها. ومنها الاجتهاد فيما يباشره من أحوال سلطانه بما يعود عليه نفعه بحيث لا يبقي في ذلك ممكناً ولا يدع فيه شأوا للاحق. ومنها كتمان السر. وهو من أفضل الآداب في صحبة السلطان وغيره وأعودها بالفلاح على صاحبها لأن كثرة الانتشار الداخل على الدول إنما توجه بتفريط بطائنها وصاحبها في أسرارها وإظهارهم بما تقرر في أذهان الملوك وعزائهم قبل أن يظهروه فيجد العدو بذلك الطريق إلى معالجة آرائهم بما ينقضها ومقابلتها بما يفسدها. على أن إفشاء السر من الأخلاق التي طبع أكثر الناس عليها وجيل بينهم وبين الإقلاع عنها فمن علم من نفسه ذلك فليحذر معاملة السلطان في أسراره وبواطن أموره ولا سيما ما وجد منها في باب حروبه ومكايده فإنه إن ظهر منه على خيانة في السر عرض نفسه للهلكة. ومنها الشكر فإنه وإن كان واجباً على الإنسان مع أكفائه ونظرائه فإنه مع السلطان الذي يستظل بظله ويستدر أخلاف فضله أوجب. إذ المرء قد يقدر على مكافأة عارفة صديقه بما يضاهيها ويزيد عليها ولا يقدر على مكافأة سلطانه إلا بشكر نعمته والمحافظة على حقوق خدمته. ثم الشكر بالقول يرتفع بني الرئيس والمرؤوس والخادم والمخدوم إلا اليسير الذي يقضي به حق الخدمة: لأن الإكثار منه داخل في حكم الملق والتثقيل وإنما يظهر شكر الخادم من أفعاله. ومنها الوفاء وهو من أهم الخصال اللازمة وآكدها إذ هو الطريق إلى صلاح العابد وعمارة البلاد بل هو رأس مال الكاتب وربحه ودوام عمله والسبب الذي لأجله ترغب السلاطين في صحبته: لأنهم ما برحوا يقربون صاحب هذه الخصلة ويرونه أهلاً للاختصاص موضعاً للثقة ولا أسوأ حالاً ممن نزل هذه المنزلة وهو بخلافها. ثم الوفاء يكون بإظهار النصيحة وبذل الاجتهاد وقصد المخالصة ومقابلة كل نعمة تفاض عليه بالنهضة فيما استند إليه: ليدعو ذلك سلطانه إلى رب النعمة لديه وإقرار ما عليه. ومن شروط الوفاء أن يلتزمه صاحبه لسلطانه في حال سعادته وإقبال دولته وفي حال توليها عنه وعطلته. أما في حال إقبال الدولة عليه فأن يصحبه بقلبه دون بدنه ولا يتطلب صاحباً غيره ينتقل إلى صحبته ويستبدل بخدمته من خدمته ولا يحدث نفسه بأنه متى وجد أنفع منه عدل إليه ولا أن يرتب له جهة أخرى يجعلها مقدمة لأمر يترقبه: لما في ذلك كله من الخروج عن حد الإخلاص المقدم وجوبه. وأما في حال انصراف الدولة عن صاحبه فإنه لا يباينه مباينة المساعد للزمان عليه المرافق للمقادير فيه ولا يخونه عند حاجته إليه ولا يضيع حقوقه عنده وصنائعه لديه ولا ينحاز بكليته إلى من أقلت أمور السلطان عليه فإن ذلك مما يدل على خبث السجية ومقابلتها على الإحسان بالإساءة واستعمال العقوق واطراح الحقوق. ومنها: مجانبة الإدلال إذ الدالة على السلطان والرئيس من أعظم مصارع التلف وأقرب الأشياء إلى زوال النعم ولأجلها هلك من هلك من بطانة السلطان وخاصته ووزرائه وفي قصصهم عبرة لمن أنعم النظر في تأملها. وعليه أن يعول في الاعتداد بخدمه ونصائحه له على اشتهارها وظهورها ولا يفيض في تعديدها وذكرها ولا يواصل التثقيل بأغراضه والإلحاف بأسئلته ولا يظهر التشجب عند التقصر به ولا الغضب اتكالاً على سالف خدمة وقيل حرمة وأن يتناسى ما أسلفه من الخدمة والصحبة ويكون في كل حال عارفاً بعوارفه معتداً بفواضله موجباً الفروض له لا عليه فإن السلطان مجبول على أنفة النفس وعزتها ولا يحتمل التنازل لأحد: لتنزيله الكل منازل الخدم والأرقاء واعتقاده أنه سبب النعمة السابغة على الكافة وثقته بوجود العوض عمن يفقده من الأعوان والأصحاب ومثابرة الناس على خدمته والانتساب إلى متابعة لما يصلون إليه من الحظوة وينالونه من الجاه والثورة. وإن كان في باطن حاله على خلاف ما يؤثر أظهر الشكر والاعتداد وتلطف في بلوغ الغرض بأحسن تعريض ولم يطلق قلمه كاتباً ولا لسانه مخاطباً فإن ذلك إزراء على همة المصحوب ودلالة على إخلاله بتفقد الصاحب لكن يذكر النعمة وسبوغها والمنة وشيوعها ويسأل الزيادة فيها ومضاعفتها. فإن ذلك يقضي ببلوغ آماله وسداد أموره وسهولة مطالبه وإذا زاده السلطان رفعة وتشريفاً ازداد له تعظيماً وتوقيراً. وإذا بسط يديه أن ينقبض عن كل ما يشينه وإذا خصه بأثرة وتقريب أن يزيد الخاصة والعامة بشراً وإيناساً وإن اتهمه بهفوة لم ينته في إقامة العذر والاحتجاج على براءة الساحة إلى الغاية القصوى بل يتوسط في ذلك ويسال من حسن الصفح والإقالة وجميل التغمد والعفو ما يجعل للإحسان وجهاً ولتعقبه للسخط سبباً. فإنه إذا صدع بالحجة في براءة الساحة فلا وجه لمعذرته وفيه تكذيب لرئيسه وربما أدى إلى فساد ومفاقمة. ومنها: التمسك بآداب الخدمة بالمواظبة عليها وصرف الاهتمام إليها إذ هي أعظم الذرائع إلى نيل الرتب وبلوغ المآرب والسبب الذي يقرب البعداء ويرفعهم على أهل الوسائل والحرم وذوي الموات والخدم ويعمي عن كل شين ويصم عن كل طعن. وما نال أحد عند السلطان مرتبة إلا والمواظبة على خدمته سببها والمواصلة موجبها. وأولى الناس بلزوم السلطان كتابه الذين لا غنى به عن حضورهم في ليله ونهاره وأحيان شغله وفراغه: لأنه رما بدهه ما يحتاج إلى استكفائه إياه وإسناده إليه وإن تأخر عنه في تلك الحال استدعى من موجدته واستجر من لائمته مالا يزيله العذر إلا في المدة الطويلة. وربما اضطر لغيبته إلى إحضار من يستكفيه ما عرض له وأدى ذلك إلى اصطناعه وتصيره في مقامه وإن كان لا يساويه في فضل ولا علم ولا غناء بخلاف ما إذا وجده مسارعاً إلى أمثلته فإن ذلك يزيد في حظوته ويدعو إلى استخلاص مودته. فيجب عليه أن يخص سلطانه من زمانه بالقسم الأوفر والنصيب الأغزر ولا يؤثر نيل لذة عليه ولا بلوغ وطر إذا أدى إلى تنكره فإن استطاع أن يوافقه على وقت يفرضه له يتمكن فيه من بلوغ أوطاره والوصول إلى مقاصده كان أحمد لعاقبته و أبلغ لقصده وأحسم لأسباب اللائمة في غيبته. ولا ينهمك في الملاذ انهماك الآمن بل يقف عند الحد الذي يبقي فيه فضلة لعوارض السلطان ومهامته الحادثة في آناء الليل وساعات النهار. فإن تعبه في صلاح زمانه وراحة سلطانه مستبق لنعمته مستدع لزيادته. ولا يشتغل بكبير الأمور عن صغيرها ولا يبتهج بما أصلحه منها حتى ينظر في عواقبه ويسوس ما رد إليه بالسياسة الفاضلة: فلين في غير ضعف ويشتد في غير عنف ويعفو عن غير خور ويسطو من غير جور ويقرب بغير تدله ويبعد بغير نكر ويخص في غير مجازاة ويعم في غير تضييع فلا يشقى به الحق وإن كان عدواً ولا يسعد به وإن كان ولياً. ومنها: إذا حضر بين يدي سلطانه أو رئيسه في المجلس الخاص أو العام أن يعتمد مقابلته بالإجلال والإعظام والتوقير والإكرام ولا يحمله تأكد الخدمة وتطاول الصحبة على إهمال ذلك بل يحفظ رسمه ولا يغير عادته. ومنها: أن يتخير لخطابه في الأغراض والأوطار أوقاتاً يعلم خلو سره فيها وفراغ باله وانشراح صدره وارتفاع الأفكار عن خاطره: إلا إن كان ما يخاطبه فيه أمراً عائداً بانتظام سلطانه واستقامة زمانه داخلاً في مهمات أعماله التي متى أخرها نسب إلى التقصير فيقدم الكلام فيها خف أو ثقل. وإذا خاطبه رئيسه من سلطان أو غيره في أمر من الأمور فعليه أن يرعيه عينه وينصت إليه سمعه ويشغل به فكره ولا يستعمله فيما يعوقه عنه حتى يستوعب ما يلقيه إليه ويجيبه عنه أحسن الجواب ولا يلتفت في حال إقباله عليه إلى غيره و لا يصغى إلى كلام متكلم ولا حديث متحدث حتى لو امتحنه باستعادة ما فاوضه فيه وجده قد أحرز جميعه فإن التقصير في ذلك مما ينكره الملوك والرؤساء ويستدلون به على ضعف المخاطب. وإن كان فيما خاطبه فيه أمر يحتمل التأخير بادر بالاعتذار عنه: لئلا ينسب إلى التقصير بتأخيره عند الكشف عنه وإن كان فيه ما يخالف الصواب أمضاه وإن تعذر السبيل إلى فعله لم يظهر التقاعس عنه لتحطئته بل يقابله بالاستصواب ثم يتلطف في تعريفه مكان الخطإ فيما رآه. ومنها: أن يجري في الحال في مجالسه على ما يعود بوفائه وإرادته: فإن مال إلى الانبساط أطلق عنانه فيه إطلاق المتجنب للهجر والتفحش ورفث القول تابعاً لإيثاره قاضياً لأوطاره. وإن أظهر الانقباض ذهب مذهبه في ذلك ولا ينبغي أن يخالفه في حال من أحواله فإن من شروط هذه الخدمة أن يتصرف صاحبها في كل ما يصرف فيه ويسرع الانقياد إلى كل ما يدعى إليه ولا يكثر من الدعاء لرئيسه والثناء عليه والشكر على ما يوليه من العوارف فإن مثل ذلك يستثقل. ومنها: أن لا يحضر سلطانه في ملابسه التي جرت العادة أن ينفرد بها كالوشي ونحوه إلا أن يكون هو الذي يشرفه بها وأن يقتصد في لباسه: فينحط عما يلبسه سلطانه ويرتفع عما يلبسه السوقة ويصرف عنايته إلى التنظف والتعطر وقطع الرائحة الكريهة من العرق وغيره حتى لا تقع عين رئيسه على دنس في أثوابه ولا يجد منه كريه رائحة في حال دنوه منه ويواصل استعمال الطيب والبخور الفائق والتضمخ بالمسك فإن الملوك ترى أن من أغفل تعهد نفسه كان ومنها: أن يتجنب التفاصح والتعمق في مخاطبة رئيسه والافتخار عليه بالبلاغة والبيان: لما في ذلك من الترفع عليه في الكلام بل يجعل ما يلقيه إليه ضمن ألفاظ تدل على معانيها بسهولة مع غض من صوته وخفض من طرفه وسكون من أعضائه: لأنه إنما يتسامح بالإتيان بالفصاحة والذهاب بمذهب الجزالة للخطباء الذين يثنون على الملوك في المواقف العامة ضرورة احتياجهم إلى استعمال ألفاظ تقع في الأسماع أحسن المواقع. ومنها: أنه إذا تميز عند رئيسه وارتفعت رتبته لديه أن يجمل القول في خاصته وعامته ويحسن الوساطة لحاشيته ورعيته ويتجنب القدح عنده في أكفائه ونظرائه من بطانته والمقربين من حضرته ليكون ذلك داعياً إلى محبته والثناء عليه مكافأة وإمساك الألسن عن الطعن فيه. ومنها: أن يبادر إلى المشورة عليه بالصواب فيما يستشيره فيه ويورده إيراد مستفيد لا مفيد ومن تعلم لا معلم ويتلطف في أن يوقعه من نفسه موقعاً يدعوه إلى العمل به. فإن من عادة الملوك والرؤساء الأنفة من الانقياد إلى ما ينتحله غرهم من الآراء ولو كانت صائبة وإن تمكن من صياغة حديث يودعه فيه فعل مخادعة بذلك لنفسه الأبية وعزته المتقاعسة.
قال علي بن خلف: ولا شك أن طريقة الاعتدال في ذلك الموافاة في الإخاء والمساواة في الصفاء ومقابلة كل حالة بما يضاهيها. أما المسامحة بالحقوق والإغضاء عمن قصر والمحافظة على ود من فرط فلا خلاف في فضله والتمدح بمثله لا سيما لمثل أهل هذه الصناعة التي يرتفع حق الاعتزاء إليها عن حقوق القرابات الدانية والأنساب الراسخة. ولذلك وقع في كلام بعضهم الكتابة نسب. قال علي بن خلف: والمعنى فيه أن التناسب الحاصل بين أهلها تناسب نفساني لا جسماني يحصل عن تناسب الصور القائمة في نفوسهم بالقوة وعن تناسبها بعد خروجها وظهورها من القوة إلى الفعل بدليل ما نراه من اتفاق خواطرهم على كثير من المعاني التي يستنبطونها وتواردهم فيها. ولولا تناسب الغرائز وتشابهها لم يكن أن يتواطؤا في أكثر الأحوال على معان متكافئة متوافية. قال: وإذا كنا نحفظ من مت إلينا بالأنساب الجسمية التي لا تعارف بينها فأولى أن نحفظ من مت إلينا بالأنساب النفسانية التي يصح منها التعارف. ولذلك قال الحسن بن وهب: والكتابة نفس واجدة تجزأت في أبدان متفرقة. وقال: لا عبرة بما يقع بني بعضهم من التنافر والتباين لأن المناسبة إنما تقع عند المساواة. أما من وقع دون رتبة الآخر من الفضيلة فليس بمناسب له فيصير القاصر حاسداً لمن فوقه للتقصير الذي فيه. وبكل حال فإنه يجب عليه أن يعرف لأكفائه حقهم ويحفظ مناسبتهم ويتوخى مساهمتهم ويتلقاهم بالإكرام والتمييز ويجعلهم في أعلى المراتب عنده ويزيدهم على الإنصاف ولا يقصر بهم عما يستوجبونه ويستحقونه ويتخول بمثل ذلك نظراءه في الرياسة من غير الكتاب وإن تعذر عليه الوصول إلى ملتمسهم أطاب قلوبهم بالوعد الجميل في المستقبل واجتهد في الوفاء به.
الأتباع قال علي بن خلف: وهي لاحقة بعشرة الأكفاء: لأن الذين يستعين بهم الكاتب يدعون كتاباً ولا يدعون أعواناً وإنما الأعوان خدام الشرطة ومن يجري مجراهم قال: وهم وإن كانوا أصحاب الكاتب ومرءوسيه وأتباعه فاسم الكتابة يجمع بينه وبينهم ومعاشرتهم داخلة في باب التكرم والتفضيل والاستئثار بمحاسن الأفعال ومكارم الشيم. ثم قال بعد ذلك: وينبغي أن يخصهم بالنصب الأوفر من إكرامه والقسم الأغزر من ملاحظته واهتمامه ويفرض لهم من التقديم والاختصاص وتفقد الأحوال والشؤون والذي ينتهي إليه أمل المرؤوس من الرئيس: ليجعل خدمتهم له بذلك خدمة مقة ومودة لا خدمة خوف ورهبة وأن يحبب خدمته إليهم بترك مناقشتهم والتضييق عليهم وإنالتهم من الترفيه في بعض الأوقات ما يجدون به السبيل إلى الأخذ بنصيب من لذاتهم وأوطارهم التي تميل النفوس إليها وتتهافت عليها فإنهم متى لحقهم التعب والنصب اعترضهم الضجر والملال فقصروا في الأعمال وتهاونوا بالأشغال فلا بد لهم من راحة تصفو بها أذهانهم. ويزول عنها الكلال ولا يفسح لهم في مواصلة الراحة والإخلال بما يلزمهم فإن ذلك يحمل على سوء العادة وقبح المذهب. وعليه أن يحفظ لهم حقوق الصحبة والخدمة ويوجدهم من الإعانة ما فيه صلا حالهم فإنه يستعبدهم بذلك ويستخلص مودتهم إذ القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها.
الرعية قال ابن خلف: وهو أمر عظيم النفع جسيم العائدة قاض بالسلامة إذ لا يطيب لأحد عيش مع بغض الرعية له ونفورهم عنه وإن علت عند السلطان رتبته وارتفعت طبقته. وطن بنفسه الاستغناء عنهم. قال: فينبغي أن يوفر العناية على استصلاحهم له واستمالة أهوائهم إليه ولين الجانب ووطاءة الكنف وخفض الجناح والبسط والإيناس وتألفهم: كما يوفرها على استصلاح السلطان وسياسته لتصح له رتبة التوسط بين الطبقتين ويسلم من طعن الطاعن ولو اللائم ويبرأ من البغض والشحناء وينقلهم عما تسرع إليه الطباع الرديئة: من الحسد والإيذاء إلى التألف والمودة. وقد أدب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
من يمت إليه بحرمة كالجار والقاصد والآمل والمدل بحق المفاوضة والمطاعمة والمحاضرة والسلام والمعرفة في الصبا والصداقة بين الآباء وغير ذلك من الحرم التي لا يطرحها أهل المروءات قال ابن خلف وينبغي أن يوفيهم حقوقهم وينهض بما يسنح من أوطارهم. ومهماتهم ويعينهم على ما يحدث من نوائب زمانهم ويسعد في بلوغ مطالبهم من سلطانهم ولا يضن عليهم بجاه ولا مال ولا يخيب أمل آملهم ولا قصده ويفرض لهم من إذعانه واعتنائه ما يعز جانبهم ويسهل مآربهم ويكف الضيم والظلم عنهم ويبسط العدل والإنصاف عليهم فإنه إذا التزم ذلك لهم التزموا له الإعظام والإجلال وأطلقوا ألسنتهم بالثناء عليه والاعتداد بأياديه وأشاعوا ذلك بين قلت: ومن تمام آداب الكاتب وكمالها أن يعرف حقوق مشايخ الصناعة وائمتها الذين فتحوا أبوابها وذللوا سبلها وسهلوا طرقها ويعاملهم بالإنصاف فيما أعملوا فيه خواطرهم وأتعبوا فيه روياتهم فينزلهم منازلهم ولا يبخسهم حقوقهم. فمن آفات هذه الصنعة على ذوي الفضل من أهلها أن القاصر منهم لا يمتنع من ادعاء منزلة المبرز بل لا يعفيه من ادعاء التقدم في الفضل عليه والمبرز في الفضل لا يقدر على إثبات نقص المتخلف ثم أصل هذه الآداب الذي تفجرت منه رسالة عبد المجيد بن يحيى الكاتب التي كتبها إلى الكتاب يوصيهم فيها وهي: أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم! فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. ومن بعد الملوك المكرمين أصنافاً وإن كانوا في الحقيقة سواء وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معايشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءة والعلم والرواية بكم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلادهم. لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون وألسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطئون فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة علميكم! وليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمود وخصال الفضل المذكور المعدودة منكم أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليماً في موضع الحلم فهيماً في موضع الحكم ومقداماً في موضع الإقدام ومحجماً في موضع الإحجام مؤثراً للعفاف والعدل والإنصاف كتوماً للأسرار وفياً عند الشدائد عالماً بما يأتي من النوازل ويضع الأمور مواضعها والطوارق أماكنه. قد نظر في كل فن من فنون العلوم فأحكمه فإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعد لكل أمر عدته وعتاده ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته. فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين وابدأوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم. ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها. وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإن ذلك معين لكم على ما تسموا إليه هممكم. ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب ونزهوا صناعتكم عن الدناآت واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات وإياكم والكبر والصلف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم وتواصوا عليها بالذي هو أليق بأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم. وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحدكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظوه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقدم معرفته. وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحفظ منه على ولده وأخيه. فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يضيفها إلا إلى صاحبه وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه. وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى الفراء وهو لكم أفسد منه لها. فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه الرجل يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وصبره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه. فاستشعروا ذلك وفقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة! فإذا ولي الرجل منم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز وجل وليؤثر طاعته وليكن على الضعيف رفيقاً وللمظلوم منصفاً فإن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أرفقهم بعياله. ثم ليكن بالعدل حاكماً وللأشراف مكرماً وللفيء موفراً وللبلاد عامراً وللرعية متألفاً وعن إذائهم متخلفاً وليكن في مجلسه متواضعاً حليماً وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقاً وإذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال لصرفه عما يهواه من القبيح ألطف حيلة وأجمل وسيلة. وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيراً بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت رموحاً لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوباً اتقاها من قبل يديها وإن خاف منها شروداً توقاها من ناحية رأسها وإن كانت حروناً قمع برفق هواها في طريقها فإن استمرت عطفها يسيراً فيسلس له قيادها. وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وخدمهم وداخلهم. والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق بصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً ولا تعرف صواباً ولا تفهم خطاباً إلا بقدر ما يصرها إليه صاحبها الراكب عليها. ألا فأمعنوا رحمكم الله في النظر وأعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة إن شاء الله تعالى. ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير. واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما ولا سيما الكتاب وأرباب الآداب وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة وأصدقها حجة وأحدهما عاقبة. واعلموا أن للتدبير آفة متلفة وهي الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ عمله ورؤيته فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقة وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإن ذلك مصلحة لفعله ومدفعه للتشاغل عن إكثاره وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف. وذلك على من تأمله غير خاف. ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإن أعقل الرجلين عند ذوي الالباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أن صاحبه أعقل منه وأحمد في طريقته وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا تكاثر على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيره وحمد الله واجب على الجميع: وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته. وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من يلزم الصحة يلزمه العمل وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل فلذلك جعلته آخراً وتممته به. تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده! فإن ذلك إليه وبيده. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
|